فصل: مسألة أول ظعينة قدمت المدينة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين:

في حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن، فصلى بهم يوماً فأصابته العين حين قدم الشام.
قال محمد بن رشد: حسن الصوت بالقرآن موهبة من الله، وعطية؛ لأن حسن الصوت مما يوجب الخشوع ورقة القلوب، ويدعو إلى الخير. وقد قيل في قول الله عز وجل: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1]: حسن الصوت، وما يصيب المعين يقول العائن إذا لم يُبرِّك، أمر أجرى الله به العادة في الغالب، مع القدر السابق، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عَلَامَ يَقْتُلُ أحَدُكُمْ أخَاهُ؟ ألاَ بَرَّكْتَ، إِنَّ الْعَيْنَ حَق». يريد: إن اللَه قد أجرى العادة به؛ لأن قول العائن هو المُحدِث لما أصاب المعين، وبالله التوفيق.

.مسألة في أن صهيبا صلى على عمر بن الخطاب:

وسئل مالك: هل صلى صهيبٌ على عمر؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حقق مالك في هذه الرواية أنه صلى عليه، ومثله في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز، ووقع في سماع أشهب منه. قلت له: أبلغك أن عمر بن الخطاب صلى عليه صُهيب؟ قال: لم أسمع ذلك، ولكني أظن ذلك، لقول عمر بن الخطاب: يصلي بكم صهيب ثلاثاً، وهو ظني أن صهيباً صلى عليه، وذلك لقوله: يصلي بكم صهيباً، وهو ظن كاليقين؛ لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه على الصلاة أيام الشورى فيصلي عليه غيره، ولم يجتمعوا بعدً على إمام.
وهو صهيب بن سنان الرومي يعرف بالرومي، وهو من العرب؛ لأنه أصابه سبيٌ وهو صغير، فصار أعجمي اللسان. صحب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قبل أن يوحى إليه، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً فهو من المهاجرين الأولين. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِن باللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ، فَلْيُحِبَّ صُهَيْباً حُبّ الْوَالِدَةِ وَلَدَهَا».

.مسألة حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود:

حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود قال مالك: حدثنا يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت قرقوة عرض لها رجل من أصحاب الحمر، فنزل إليها ثم أرادها على نفسها فكشف عنها ثيابها فامتنعت منه فرمت بحجر فشجته ثم صاحت، فذهب، فأتت مروان بن الحكم، وكانت فيه شدة في الحدود فذكرت ذلك، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، وقال لها: تّعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأُدخلت بيتاً ثم قال: ائتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه، إلا جئتموني به، فأتوه بهم فجعل يُدخل عليها رجلًا رجلاً، فتقول: ليس هو هذا حتى دخل عليها به مسجوجاً، فقالت: هو هذا، فأمر به مروان أن يحبس في السجن، فأتى أبوه فكلمه فيه فقال مروان: جانيك من يجني عليك، وقد تُعدي الصحاحَ مَباركُ الجَرب، فقال أبوه: ليس كذلك، إنما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال مروان: لاها الله لا يخرج منها حتى ينفدها الفيد؟ وهم بما كشف منها، فقال أبوه: هي علي، فأمر به مروان فأخرج، فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء يؤخذ به؟ قال: ليس هذا عندي من القضاء ولكنه على غلطة من مروان، ولقد كان مروان يُؤتَى إليه بالرجل قد قبَّل المرأة فيَنزع ثَنِيَته.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود. وما تضمنته عن مروان بأنه قضى للمرأة بدعواها على الذي ادعت عليه أنه أرادها على نفسها وكشف عن ثيابها بألفي درهم بما ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت الظنة عليه- لا يأخذ به مالك ولا يرى عليه القضاء به، إذ لا يرى العقوبات في الأموال؛ لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في مانع الزكاة: أنا آخذها منه، ونظر عزمة من عزمات الإسلام.
وما روى عنه في حريسة الجبل: أن فيها غرامة مثليها. وما روي عنه: من أن سَلَبَ مَنْ أحد وهو يصيد في الحرم لمن أخذه. كان ذلك كله في أول الِإسلام وحكم به عمر بن الخطاب، ثم انعقد الِإجماع بأن ذلك لا يجب، وعادة العقوبات على الجرائم من الأبدان، وقد أنكر ذلك على مروان بن الحكم، فقال على سبيل إنكار ذلك عليه: إنه كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الِإنكار.
والعقوبات في الجرائم عند مالك على قدر عقوبات الوالي وعظم جرم الجاني على أن لا يجاوز الحد، وقد أمر مالك صاحب الشُّرط في الذي وجد مع صبي في سطح، وقد جرده وضمه إليه وغلق على نفسه معه، فلم يشكوا في المكروه بعينه، أن يضربه ضرباً مبرحاً ويسجنه سجناً طويلاً حتى تظهر توبته، وتتبيّن، فسجنه صاحب الشرط أياماً قبل أن يضربه، فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد، ويقول: اتق الله فما خلقت النار باطلاً، فيقول له مالك: أجل وإن الذي أبقى عليك ابنك لمن الباطل، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوط، فانتفخ، فمات، فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به. فقيل له: يا أبا عبد الله، إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير، فقال: هذا بما اجترم، وما رأيت أنه أمسه من العقوبة إلا بما اجترم. وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة: الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره، يؤدب في ذلك باجتهاده وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح، وله في الواضحة: إن أقصى ما يبلغ من الأدب في المعروف بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك.
وروي عن أصبغ: أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البيِّن الفساد مائتان. وروي عنه: أن ذلك إلى اجتهاد الِإمام، وإن أتى على النفس.
وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية ابن عباس أنه قال: «مَنْ بَلَغَ حَدَاً في غَيْرِ حَدٍّ فَهُو مِنَ الْمُعْتَدِينَ». وذهب إلى هذا محمد بن مسلمة، فقال: انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة، فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فلم يجعل عليهما أَكثر من ذلك فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوْطاً.
وقد روى عبْد الله بن مسلمة بن القعب عن مالك: أنه لا يجاوز فيها خمسة وسبعينَ، وأنه كان يقول: الأدب عندي دون الحد. والمشهور عنه المعلوم من مذهبه: أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب ابن القاسم.
وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب، ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد. وروي ذلك عن الليث بن سعد، وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين، وقال ابن أبي ليلى، وابن شُبرمة: لا يبلغ فيه مائة.
ومن أهل العلم من رأى: أنه لا يضرب أكثر من عشرة أسواط. وروي مثله عن أشهب. قال: لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب كذا على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه. وقد مضى هذا كله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود.

.مسألة فضل الزمن المتقدم على المتأخر:

في فضل الزمن المتقدم على المتأخر قال مالك: قال عبد الله بن مسعود: لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْه، فقال مالك: أراه منذ زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إن عامنا هذا أخصب وأرخص سعرِاً من العام الماضي، فقال: أيهما أكثر فقهاء وقراء وأحدث عهداَ بالنبوة؟ قال: الذي مضى، قال ابن مسعود: ذلك الذي أردت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل؛ لأن صلاح الزمن وخيره إنما في صلاح أهله وكثرة الخير فيهم، وفساده وشره إنما هو بفساد أهله وشرهم، وقلة الخير والدعة فيهم، والخير والصلاح في الناس بكثرة علمائهم وخيارهم. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرًونِ قَرْني ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم ثم الَّذِينَ يَلُونَهُم»، فزمن قرنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من زمن القرن الذي بعده وزمن القرن الذي بعده خير من زمن القرن الذي يليه، وزمن الذي يليه خير من زمن الذي يليه، وهكذا أبداً؛ لأن الزمن إنما يُمدح بأهله، لا بكثرة الرخاء والخصب فيه، إذ قد يكثر الشر في زمن الرخاء فيكون زمنا مذموماً وتقل المعاصي والشر في زمن قلة الرخاًء والجذب، فيكون زمناً ممدوحاً. فهذا وجه قول ابن مسعود ما من عام إلا والذي قبله خير منه. وبالله التوفيق.

.مسألة ما يجوز من فتنة المال:

وحدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب لما رأى ما جُلب إليه من المال الذي أفاء الله عليه، فقال: ما ظهر مثلُ هذا قط في أًمةٍ إلا سفكت دماؤها، وقطعت أرحامها، قال مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، وقد كان يجب أن يعيش في الدنيا ويستمتع منها.
قال الإِمام القاضي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما ظهر مثل هذا في أمة إلا سفكت دماؤها وقطعت أرحامها، معناه: أن الناس بما ركب الله فيهم من حب المال والرغبة فيه، والحرص عليه، حسبما ذكره في كتابه حَيثُ يَقُولُ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] يتنافسون فيه ويتقاتلون عليه فيسفكون دماءهم، ويقطعون أرحامهم بسببه.
وقول مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، يريد: دعاءهُ الذي دعا عند صدره: من مِنا؛ إذ أناخ بالأبطح، فكوم كومة بطحاً ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يده إلى السماء، ثم قال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، واستشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. وما قاله مالك من أَنه إنما دعا بما دعا به لما خافه من الفتن- بيِّن، من قوله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، فإنما تمنى الموت مخافة أن يعيش فيمتحن بالفتن، ويكون منه تضيع أو تفرط فيما يلزمه فيها، إذ هو الخليفة للمسلمين.
وقول مالك: وقد كان يحب أن يعيش في الدنيا، ويستمتع بها، ليس معناه: أنه كان يحب أن يعيش فيها لمجرد التمتع بالشهوات المباحة، وإنما معناه: أنه كان يحب أن يعيش في الدنيا ويستمتع بما يقوى به على طاعة ربه، ويتقرب به إلى خالقه من الصلوات والأعمال الزاكيات، فخيْرُ الناس مَن طال عمره، وحسن عمله؛ لأن زيادة السن زيادة في الفضيلة.
ولهذا يقدم الأسن من الرجلين في الصلاة عند استوائهما في العلم والدين. والدليل على هذا: «قَوْلُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلَيْنِ الأخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأوَّل عنْدَهُ فَقَالَ: ألمْ يَكُنْ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَكَانَ لَا بَأسَ بِهِ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكُم مَا بَلَغَتْ بِهِ صلاَتُهُ بَعْدَهُ؟ إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَل نَهْرٍ عَذْب غَمْرٍ بِبَلَدٍ أحَدِكُمْ يَقْتَحِم فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبقِي من درَنِهِ؟ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ». وليس قول عمر: اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، بخلاف لما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من قوله: «لاَ يَتَمَنَّينَّ أَحَدُكُم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» لأنه إنما دعا بما دعا به، شفقة على دينه، وخوفاً من أن تدركه فتنة تصده عن القيام بأمور المسلمين في دينهم ودنياهم، لما غصب به من الخلافة عليهم. والنهيُ إنما هو عن تمني الموت عند نزول المصائب في الدنيا وحلول البلايا فيها سخطاً بالقضاء وقلة رضا به، وعدم صبر على الأذى والشدة، لا عند الخوف على فساد الدين بحلول الفتن. والله أعلم.

.مسألة حكاية من سعد بن معاذ:

قال مالك: وكان من أمر سعد حين مرَّ وعليه الدرع وهو يقول:
مَهْلًا قليلاً نَلْحَقُ الْهَيْجَا حَمَلْ ** لَا بَأْسَ بالْمَوْتِ إِذَا حَلَّ الَأجَلْ

قال محمد بن رشد: حين مر وعليه الدرع المقلصة المشمَّرة الكمين، فقالت: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه. وقد مضى الكلام على هذا في صدر هذا الرسم. وقوله في البيت:
مهلا قليلاً نلحق الهيجا حَمَلْ

معناه الدعاء على أن يمهله الله على ضعفه حتى يلحق الحرب؛ لأن الحَمَل: الصغيرُ من ولد الضأن، وقد يحتمل أن يكون قال ذلك وهو ضعيفٌ من الجرح الذي أصابه بالخندق، فمات منه بعد شهر. وقوله في قسم البيت الثاني:
لَا بَأسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَلٌ الأجَلْ

معناه: لا أكره الموت في سبيل الله، بل أرغبه إذا لم يكن منه بُدٌّ، وحان له الأجل. وبالله التوفيق.

.مسألة إجلاء عمر يهود خيبر:

في إجلاء عمر يهود خيبر قال مالك: قال ذلك اليهودي لعمر، وَقَدْ أقَرَّنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ عُمَرُ: ألَمْ أسْمَعْهُ يَقُولُ لَكَ: كَيْفَ بكَ إِذا رَقَصَتْ بك قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيلةٍ، قال: إِنَّمَا كانت هَزِيلَةً مِنْ أبِي الْقَاسِم، فَقَالَ عُمَرُ: كًلّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْل.
قال محمد بن رشد: القائل ذلك لعمر، من اليهود رجل من كفار أهل خيبر، حين أجلى أهل خيبر عن خيبر بما ثبت عندهُ من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأرْض الْعَرَبِ»- وروي: بِجَزِيرَةِ العَرَبِ، وجزيرة العرب هي منبتهم: مكة والمدينة واليمامة واليمن، وقيل لها جزيرة العرب، لِإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارها إلى البصرة، فأبطل عمر احتجاج اليهودي عليهم في إجلائهم عن خيبر، بإقرار النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إياهم فيها بما أخبر أنه سمعه من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأن ذلك يدل على أن إقراره إياهم فيها لم يكن على التأبيد بِحق أوجبه لهم، وإنما كان لمنفعة المسلمين، إلى أن يأمر بإجلائهم فَيُمْتَثَلَ أمرُهُ فيها، وذلك من أعْلام نبوته؛ لأنه أخبر بما كان قبل أن يكون، فكان كما أخبر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك أجلى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يهود نجران وَفَدَك. فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الأرض والثمر شيء، وأما يهود فَدَكَ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم على ذلك، فأعطاهم عمر قيمته من ذهب وورق وجمال وأقتاب وأجلاهم عنها. وبالله التوفيق.

.مسألة السبب التي استحل به رسول الله صلى الله عليه بني النضير:

في السبب التي استحل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بني النضير قال مالك: «جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني النضير يستعينهم في دية فقعد في ظل جدار، فأرادوا أن يلقوا عليه رَحَا. فأخبرهُ الله بذلك، فقام وانصرف، فبذلك استحلهم وأجلاهم إلى خيبر» وصَفيَّةُ من أهلها، سباها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، قال: «فرجع إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجلاهم على أن لهم من أموالهم ما حملت الإبل والصفراء والبيضاء والخلقة والدِّنَان وَمِشَكِّ الحمل». قال: الصفراء والبيضاء الذهب والورق والخلقة السلاح والدنان الفخار ومشك الحمل يستقي فيه الماء جلود يدبغونها بشعرها، «فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حين رجعَ إليهم: يَا أخَاييثُ يَا وُجُوهَ القِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ».
قال الِإمام القاضي: الدية التي ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى بني النضير ليستعينهم فيها هي دية الرجلين الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية في منصرفه من بئر معونة، بعد أن أسره عامر بن الطفيل وأطلقه، وذلك أنهما نزلا معه في ظل، فسألهما: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما قتلهما وهو يرى أن قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بئر معُونة، وكان معهما عهد من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم به عمرو فلما قدم على رسول الله وأخبره الخبر، قال: لقد قتلت قتيلين كان لهما جوار، لأدينهما، هذا عمل أبي براء، وذلك أن أبا براء الكلابي، ويعرف بملاعب الأسِنّة، كان قد وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاه إلى الِإسلام فلم يسلم ولم ينقد. وقال له: لو بعثت رجالَاَ من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال له النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال: أنا جارٌ لهم، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم جماعة من أصحابه، قيل: في سبعين من خيار المسلمين، فنهضوا حتى نزلوا ببئر معونة، وبعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه حتى عَدَى عليه فقتله، واستصرخ عليهم قبائل من سليم عُصية ورعل وذكوان فأجابوه وخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فأخذوا سيوفهم، ثم قاتلوا حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا من كان منهم غائباً في سرحهم.
منهم عمرو بن أمية، أسروه فأطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جر ناصيته في رقبة كانت على أمه زعم. فلما ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني النضير، وكانت بينه وبينهم موادعة، ليستعين بهم في دية هذين القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ولهما منهما منه جوار. قالوا له: اجلس يا أبا القاسم حتى تطعم، وترجع بحاجتك، ونقوم نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، فقعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر، وعمر وعلي ونفر من الأنصار إلى جدار من جُدرهم فتآمروا على قتله، وقالوا: مَن رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمد صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك بعضهم وهو عمرو بن جِحاش وأوحَى الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يشعر أحد ممن معه ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره، أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أبو القاسم قبل أن نقيم له حاجته، ولحق به أصحابه بالمدينة، فأخبرهم بما أوحى الله به إليه ونزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [المائدة: 11]... الآية، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالتهيؤ إلى قتالهم وخرج بهم إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فتحصنوا منه في الحصون، فحاصرهم ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها. ودسَّ إليهم عبد الله بن أبي ابنُ سلول ومن معه من المنافقين أنهم يقاتلون معهم وينصرونهم، وذلك قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} [الحشر: 11] إلى قوله: {لا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن دمائهم ويخليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر.
وذلك معنى قوله في هذه الرواية: وأجلاهم إلى خيبر ومنهم من صار إلى الشام، وكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، فَصفيَّةُ بنتُ حيي بن أخطب من أهل خيبرَ كما قاله مالك في هذه الرواية؛ لأن أباها حيي بن أخطب من بني النضير، احتمل إلى خيبر، فصار من أهلها. وروي عن الحسن قال: بلغني «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجلى بني النضير. قال لهم:
امْضُوا فَهَذَا أوَّلُ الْحَشْرِ وَأنَا عَلَى الأثَرِ»
. وأنزل الله تعالى في ذلك في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 2] إلى قوله: {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2]. وذلك أن المؤمنين جعلوا يخربونها من ظاهرها وجعلوهم يخربونها من أجوافها لما أيقنوا أن الله أعلم بغلبة المسلمين عليهم فيها. وقد قيل: إنما كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا ببعضها ما هدم المسلمون من حصونهم. والأول أظهر. والله أعلم.
وأنزل في أمرهم: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] يقول عز وجل: لولا أن كتب على اليهود من بني النضير في أم الكتاب الانتقال من موضع إلى موضع، ومن بلد إلى آخر لعذبتهم في الدنيا بالقتل والسباء، لكني رفعت العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وعذبتهم فيها بالجلاء، ولهم في الآخرة عذاب النار مع ذلك.
وأنزل تعالى في أمرهم: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] فكانت بنو النضير صافية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم تخمس، فكانت منها صدقاتَه، على ما قاله مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، معناه: ما بقي منها بعض صدقاته، وإنما خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، حاشى سهل بن حنيف وأبي دُجانة، لفقرهما، والحارث بن الصمة؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين، فكانوا يكفونهم المئونة، ويقاسمونهم في الثمر فلما جلا بنو قينقاع وبنو النضير، قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شِئْتُم بَقِيتُم عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَقَسَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُم رَجَعَتْ إِلَيْكُم أمْوَالُكُم وَقَسَمْتُ لَهُم دونَكُم» فاختاروا ذلك ففعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد وقع في رسم صلى نهاراً بعد هذا من قول مالك: إِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسم قريظة بين المهاجرين، ونفَرٍ من الأنصار، سمعت منه أنهم ثلاثة: سهل بن حُنيف، والحارث بن الصمة، وسماك بن حرشة. قال: فأما النضير فإنها كانت صافية، لم يكن فيها خُمس، وخيبر، كانت صافية إلا قليل منها فتحت عنوة، وذلك يسير، فخمس ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في المدونة وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الجهاد هو الصحيح؛ لأن ما لَم يُوجَفْ عليه بخيل ولا ركاب، هو الذي لا خمس فيه، ولا حق لأحد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقسمه باجتهاده، فخص بالنضير المهاجرين للمعنى المذكور، إلا ثلاثة من الأنصار، ومنها كانت صدقاته، وكذلك ما كان من خيبر، لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا ركاب، لم يكن فيه خمس، ولا حق لأحد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقطع منه لأزواجه، وأما ما كان منها قد أوجف عليه بالخيل والركاب، فخمَسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقسمه بين الغانمين، وكذلك قريظة؛ لأنها افتتحت بقتال، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان، أحرزا أموالهما، أحدهما يامن بن عمير وابن كعب بن عمرو بن جحاش. وذكر أنه جعل جعلاً لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما هم به في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.مسألة عمر بن عبد العزيز زهده في زهده وخوفه الله:

حكاية عن عمر بن عبد العزيز في زهده وخوفه الله قال مالك: أمر عمر بن عبد العزيز رجلاً يشتري له ثوباً بستمائة درهم، للحاف، فسخطه، فلما ولى أمر ذلك الرجل، أن يشتري له كساء بسبعة دراهم، فلما جاء به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل، فقال له عمر: إني لأظنك أحمق، تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف الذي أمرتني أن أشتريه بستمائة درهم، قال: فصمت ساعة، ثم قال: أخشى ألا يشتري أحد ثوباً بستمائة درهم وهو يخاف الله.
قال محمد بن رشد: هذا من زُهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وخوفه لله نهاية في ذلك. وفضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه مشهورة لا تخفى، قد حصل الإجماع على الثناء عليه والشهادة بالخير له، حتى قال ابن القاسم في رواية الصلت عنه على ما وقع في سماع عبد الله بن الحسن من كتاب الأيمان بالطلاق: إن من حلف بطلاق امرأته أنه من أهل الجنة لا تطلق عليه امرأته. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك. وبالله التوفيق.

.مسألة أول ظعينة قدمت المدينة:

في أول ظعينة قدمت المدينة قال مالك: كان أَول ظعينة قدمت المدينة أُم سلمة، فخرجت وحدها من مكة مهاجرة، فرآها رجل من قريش فتبعها حتى إِذا نزلت حط رحلها ورحل لها، حتى إِذا أَرادت الرحيل تنحَّى عنها، فإِذا همَّت بالرحيل رحل لها، حتى رأى المدينة، فقال لها: هذا الموضع الذي تريدين ثم انصرف.
قال محمد بن رشد: أُم سلمة هذه هي بنت أَبي أُمية بن المغيرة المعروف بزاد الراكب، أحد أَجواد قريش المشهورين بالكرم زوج النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كانت قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تحِت أَبي سلمة بن عبد الأسود فولدت له أَولاداً منهم أبو سلمة الذي كُنيت به، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة له: أَنها أَولُ من هاجرت مع زوجها إلى أَرض الحبشة. وذكر في كتاب الدرر له: أَن أول من خرج من المسلمين فارّاً بدينه إلى أَرض الحبشة عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رجع أَبو سلمة مع زوجته أم سلمة المذكورة من أرض الحبشة إلى مكة في جملة من رجع إليها، لمَّا كان اتصل بهم من أن قريشاً قد أَسلمت أَو أَكثرها خبراً كاذباً، ثم هاجر أبو سلمة ثانية من مكة إلى المدينة، وحبست عنه امرأته أم سلمة سنة، ثم أَذن لها باللحاق بزوجها، فانطلقت مهاجرة، فكانت أول ظعينة قدمت المدينة على ما قاله مالك في هذه الرواية. والرجل الذي شيعها من قريش حتى رآها تحل المدينة وكان كافراً هو عثمان بن طلحة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة من رواية محمد بن مسلمة المغني عن مالك قال: هاجرت أم سلمة وأم حبيبة إلى أرض الحبشة ثم خرجت مهاجرة إِلى المدينة، وخرج معها رجل من المشركين، وكان ينزل بناحية منها، إِذا نزلت، ويسير معها إذا سارت، ويرحل بعيرها ويتنحَّى إذا ركبت، فلما رأى خيل المدينة قال: هذا الأرض التي تريدين ثمَّ سلَّم عليها وانصرف. والذي في هذه الرواية من أنها إِنما خرجت من مكة مهاجرة يريد بعد رجوعها إليها من أرض الحبشة هو الصحيح، والله أَعلم.

.مسألة تفسير بَكّةَ ومكَّة:

في تفسير بَكّةَ ومكَّة قال: وسئل مالك: عن تفسير مكة وبَكة؟ فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أَراه أخذ ذلك والله أعلم من قوله عزَّ وجلّ؛ لأنه قال في بَكَّة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] وهو إِنَّما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من القرية. وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]، وذلك إنَّما كان في القرية لا في موضع البيت.

.مسألة ما جاء من أن عبد المطلب حفر بئر زمزم:

فيما جاء من أنَّ عبد المطلب حفر بئر زمزم قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يُقال له: احفر زمزم، لا تنزف ولا تهزم، بين فرث ودم، تروي الحجيج الأعظم، في موضع التراب الأعصم. قال: فحفره.
قال الِإمام القاضي: قد جاء في الصحيح: أن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان بينه وبين أهله ما كان خرج بابنه إسماعيل وأمه ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة فجعلت تشرب من الشنّة ويدرّ لبنها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحس أحداً فصعدت على الصفا فنظرت فلم تر أَحداً ثم هبطت فلما صارت في الوادي، رفعت رأسها فسعت سعي الِإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات وابنها يلتوي من العطش، فلما كان في آخر ذلك، سمعت صوتاً فأصغتَ إليه فقال: قد سمعت أن كان عندك غواث، فإذا جبريل فقال بعقبه هكذا، فاندفق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفن، قال: فقال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِراً» أي: لكانت زمزم عيناً معيناً، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول فتلقاه الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.